أفيق من كابوسي- إنهم يطلقون كلابهم لينهشوا لحم أطفالنا، يأتي في الليل جنودهم ليحصوا عدد الذكور في المنزل وأماكن نومهم، يأخذوا منهم من أرادوا، والأم والأب لا حول لهم ولا قوة لأنهم - هكذا هددوهما: سيأخذون المزيد إن لم يخرسا. في هذه الليلة أخذوا محمداً، وشوشوا في أذنه، (إن لم تعترف سنأتي برجل "يحب الصغار" وقد ينتقل بعد إلى أخيك الصغير)…يكسرون قلبه قبل عزيمته، يخضعونه بحبه لأخيه.
أحتسي قهوتي وأصيح في وجهك لأنك لم تنته بعد من ارتداء ملابسك، ولأنني دائما وحدي في كوابيسي، لا أحد يسمعني. سأوصلك إلى الحضانة بسرعة لأستفرد باكتئابي.
تضجرين من كثرة ألعابك وهدوء البيت. تسألينني في طريقنا إليه: من سيزورنا اليوم؟ لا أحد يزورنا. في
أغلب الأحيان.
تسمعينني أصيح في شاشة الكمبيوتر، تتلصصين لتجدينني أحادث صوتاً يخرج منه... إنها خالتي: كل شيء على ما يرام، الأوضاع هادئة في غزة، تذهب الكهرباء ولا تأتي، (الدنيا شتا، قاعدين (كانين) في البيت، بنشوى حبات الكستناء على الصوبيا، تعي كلي).. تسألينني: (لماذا يأكلون الكستناء؟ أريد أن أجربها.)
لن تجربي كستناء غزة يا حبيبتي. لها نكهة رائعة في قلب شتاء غزة، لكن أنت بالذات لن تجربيها يا عين ماما. لن تأخذك ماما لزيارة عائلتها في إحدى الإجازات. قد تحبين الفلافل الطازجة والحمص في الصباح، سيأتي سرب من الأطفال لاستقبالك ومعاينة شكلك، ستكونين ضمن الصغار، لن يسمحوا لك بمشاركتهم في ألعاب الشدة، ولا في ألعاب الكمبيوتر، لكن بنات العائلة سيضفرن جدائلك الشقراء بخمسين طريقة، ستكوني أميرتهم الصغيرة.
لكنني لن آخذك إلى تلك البلاد التي تأكل أولادها أمواتاً وتئدهم أحياءً. لن آخذك إلى بلد يحَرم نواح الأم على ابنها المقتول، لأنه شهيد. ستلحي علي أن أشرح لك هذه الكلمة، كيف أفسر لك معنى الشهيد قبل معنى وجود الله؟ مقتول هو، حتى وإن ذهب الى حتفه بنفسه. شدوا الكوفية على رأسه بشدة كي لا تظهر الفجوة في جمجمته..لونه باهت، أصفر يميل إلى الزرقه في بعض المناطق، كأنه أموت من الأموات الآخرين، فقد كميات كبيرة من الدم، بشرته لا تزال ناعمة، لم يكن يحلق كثيراً مثل إخوته الكبار.. لم يكن قمره قد اكتمل
بعد.
لا أريدك حتى أن تحضري جنازة، أو تسمعي بكاء الأمهات، سيخدشك كل هذا لأنك صغيرة، لا تزالين صغيرتي أنا، صغيرتي التي ترفض أكل البيض لأنه في كل بيضة (كتكوت) كما تقولين، و(الكتكوت قد يموت في بطني يا أمي).
لاـ لن نزور عائلة ماما قريباً، لن نزور خالاتي وخلاني وأولادهم، فقد ماتت جدتي، وكلنا نعرف معنى موت الأم..سيرفض عدنان زيارة علي لأنه الأصغر، وستتغامز بنات العائلة عند المغسلة على “الكناين” اللواتي لم يشاركن في الأعمال المنزلية… ماتت جدتي وأوقفت طفولتي هكذا، قررت بالنيابة عني أن علي أن أكبر، وأن أعقل.
أخاف أن أزور غزة من بعدها. رصيتُ ذكرياتي في حقيبتي الذهنية كالغسيل النظيف، هو الآن جميل ومنظم، تفوح منه رائحة الصابون الطازجة، لا داعي لأن نخرجه ونفرده ليتسخ، أو تأكل العتة أضلاعه...لا تطلبي مني أن أزور غزة، فقد تعبت كثيراً في الحرب الأخيرة، لم يبق منها إلا ركائز المباني ورائحة سجائر الرجال..سنتركها الآن تنام بعض الشيء، تلتحف بكل ما لديها من أغطية، وتترك البحر والمطر يغسلان ما تبقى من رماد.
قد نزورها في الربيع عندما تكبرين، وأكبر أنا، نعود لنبحث عن من قد يتذكرنا، لأننا غبنا كثيراً، تأخرنا عن ميعاد أرض لم تعرفيها.
هينيف/ ألمانيا 12 يناير 2016